مضافاً إلى الأخبار الكثيرة التي أخرجها أعلام المحدثين وأكابر المفسـريـن مـن العامـة والخاصة في كتب الحديث والجوامع والمسانيد وكتب التفسير عن النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وأصحابه ، أن لفظة (إنما) محققة لما ثبت بعدها نافية لما لم يثبت ، والإرادة التي جائت في الآية الكريمة هي الإرادة الحتمية والتكوينية التي يتبعها التطهير ، دون الإرادة المحضة والمطلقة التي ربما يعبر عنها بالإرادة التشريعية .
وذلك لأنه تعالى أراد التطهير عن الأرجاس عن جميع المكلفين بالإرادة المطلقة والتشريعية ، وأمرهم بكل ما ينبغي أن يفعلوه ، ونهاهم عن كل ما ينبغي أن يتركوه ، والآية الكريمة تدل على اختصاص الإرادة المذكورة فيها بأهل البيت(عليهم السلام) دون غيرهم ، فلاتكون الإرادة إلا الإرادة الحتمية التي يتبعها التطهير لامحالة .
وأيضاً لاريب في أن هذا التعبير الصريح في اختصاصهم بهذه الإرادة صريح في المدح والتعظيم لأهل البيت(عليهم السلام) ، وإذا كانت الإرادة غير حتمية لامدح لهم بها ، ويختل نظام الكلام المنزه عنه كلام العقلاء فضلا عن اللّه تعالى .وعليه لامناص من القول بأن المراد منها هي الإرادة المستتبعة للتطهير وإذهاب الرجس.
وبذلـك يدفـع توهم شمـول الآيـة لغير أهل البيـت(عليهم السلام) ممن ثبت عدم عصمتهـم كأزواج النبي(صلى الله عليه وآله) ومما يدل على أن الإرادة هي الإرادة الحتمية أن متعلق الإرادة في الآية إذهاب الرجس عنهم الذي هو فعل اللّه تعالى ، والإرادة التي تتعلق بفعله تعالى حتمية لاتتخلف عن المراد ، ففرق بين مايكون المراد فعله تعالى ، وبين مايكون فعل الغير المختار ، فإذا كان متعلق الإرادة فعل غيره المختار يصح أن تكون هي التشريعية كما يجوز أن تكون التكوينية ، وإن كان الظاهر من موارد الإستعمالات بلا قـرينة صارفة هو الأولى .
وإذا كان متعلق الإرادة فعل اللّه تعالى أو صدور الفعل عن غيره المختار بدون اختياره تكون الإرادة حتمية لاتتخلف عن المراد ، وإلا لزم إسناد العجز إلى الباري سبحانه وتعالى شأنه المنزه عن كل عجز ونقص ، والمتعالي عن ذلك علواً كبيرا .ولايخفى عليك أن في الآية ضروباً من التأكيد من المدح والتعظيم لأهل البيت(عليهم السلام)كما يدل قوله (تطهيراً) أيضاً على عِظَم شأن هذا التطهير .إن قلت : على هذا : إذا كان إذهاب الرجس عنهم بفعل اللّه تعالى وإرادته الحتمية كيف يوجه مدحهم ، وتفضيلهم على غيرهم لأمر لم يكن من فعلهم ولاباختيارهم ؟قلت : إن عنايات اللّه الخاصة ، بل والعامة لاتشمل إلا من له قابلية قبولها ، وهو عزوجل أعلم بمحـالِّها ومواردها . قال اللّه تعالى (وإن مـن شيء إلا عندنا خزائنه ، وما ننزله إلا بقدر معلوم) وقال جل شأنه (اللّه أعلم حيث يجعل رسالته)
إن قضية إذهاب الرجس عنهم(عليهم السلام) ، وتعلق إرادته تعالى به التي لاتتخلف عن مراده هي عصمتهم، وعدم صدور القبائح منهم ، وطهارتهم عن الأرجاس حال كونهم مختارين في الفعل والترك ، غير مقهورين ، محفوفين بشواغل عالم الطبيعة ، مما يدعو النفوس إلى الإنصـراف عن الملأ الأعلى ، والإشتغال بذكر اللّه تعالى .
إن الله تعالى وإن قطع بالإرادة التشريعية عذر عباده، وأنشأ بأوامره ونواهيه ما يصلح أن يكون داعياً للجميع نحو الفعل المأمور به ، أو زاجراً لهم عن الفعل المنهي عنه ، وجعل الكل في ذلك سواء ، إلا أن المستفاد من الآية الشريفة أنه لعلمه بحال هذه الذوات المقدسة ، وأنهم عباد مكرمون لايسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون ، وما يشاؤون إلا أن يشاء اللّه ، أراد بالإرادة ، الجدية (لاالتكوينية) انبعاثهم نحو جميع الطاعات ، وانزجارهم عن جميع المنهيات ، فأمرهم بما أمرهم ، ونهاهم عما نهاهم ، لا لأن يكون هذا الأمر والنهي لقطع العذر ، وإتمام الحجة عليهم ، بل لانبعاثهم نحو ما أمروا به ، وانزجارهم عما نهوا عنه ، وليكون باعثاً وداعياً لهم للإمتثال ، وتطهيراً لهم عن جميع الأرجاس ، وقد أخبرَنا بذلك في هذه الآية الكريمة إعلاماً بجلالة قدرهم ، وعلو شأنهم ، وسمو مقامهم ، وكمال نفوسهم ، وعلى هذا دلت الآية الشريفة على أن فيهم ملكة قبول كل ما أمر اللّه تعالى به ، ونهى عنه والإهتداء بهدايته ، ومن كان حاله هذا يريد اللّه تعالى إذهاب الرجس عنه ، ويوفر له أسباب التوفيق، ويخصه بعناياته الخاصة ، ويجعله تحت رعايته الكاملة يلهمه كل خير ، ويميز له كل شر ، لايدعه في حال من الحالات ، ولا في شأن من الشؤون يختاره ، ويصطفيه من بين عباده ، وهو القادر على ما يريد ، وبكل شيء عليم ، لايسئل عما يفعل وهم يسئلون .
نحن نعرف كثيراً من الناس على بعض مراتب تلك الصفة السامية والملكة العالية القدسية ، مطيعين للّه خائفين منه ، أهل الخضوع والخشوع وقيام الليل ، معروفين بالعدالة والزهد ، ولكن لانعرف على صفة العصمة غير من شهد اللّه تعالى له بذلك ، لأن العصمة المطلقة لاتعرف إلا من طريق الوحي ، والإرتباط بعالم القدس ، والملكوت الأعلى وقد عرفَنا اللّه تعالى في هذه الآية أهل البيت(عليهم السلام) ، وأخبرنا بطهارتهم عن الأرجاس ، وعصمتهم صلوات اللّه عليهم أجمعين ، ورزقنا اللّه اتباعهم ، والإقتداء بهم ، وأماتنا بحبهم وولايتهم ، ولايفرق بيننا وبينهم طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة ، إنه الكريم المتفضل الوهاب .
وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق